قطر...عام على الحصار

يبدو المشهد اليوم وكأننا أمام التاريخ الحديث لألمانيا عندما نرى الكيفية التي تمزقّت بها الروابط الأسرية داخل العائلة الواحدة، وتقطعّت الأواصر بين الصديق وصديقه، واضطر الموظّف إلى ترك عمله ووظيفته. إذا نظرنا اليوم إلى ما يحصل في قطر، فإنه سرعان ما يتبادر إلى الأذهان بشكل تلقائي تقسيم ألمانيا بين شرق وغرب، ونرى أمامنا إعادة لجدار برلين. فقبل عام، تحولّت قطر وبشكل خارج عن إرادتها لتصبح جزيرة معتمدة على نفسها أمام مرأى العالم العربي والعالم الحر، ومقيّدة بين القوى، تماماً كما كانت عليه برلين يوماً.

قطعت مصر والبحرين والسعودية والإمارات مطلع شهر يونيو 2017 علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر، وفرضوا حظراً تجارياً واقتصادياً شاملاً عليها، وانسحبوا كذلك من العقود الموقّعة معها، وأغلقوا الحدود البرية والبحرية والجوية. واليوم نشهد الذكرى السنوية الأولى على مرور هذا الحصار الذي ترتّب عليه عواقب وآثار دراماتيكية لا تحصى على أعداد كبيرة من الناس والعائلات في منطقة الخليج العربي.

وها نحن اليوم مضطرون إلى أن نشهد مرور هذه الذكرى الحزينة. هذه الذكرى التي تمثّل عدم الاستقرار المتزايد في منطقة هشّة بالأصل. إنها الذكرى السنوية الأولى لأزمة سياسية واقتصادية وإنسانية.

إلا أن هذه الذكرى تمثّل مناسبة لإستذكار نقاط قوتنا، قوة الانسجام والتجانس والتصالح. نقاط قوة الروابط التاريخية والعائلية والثقافية التي توحدّنا وتجمعنا مع الدول الشقيقة في منطقة الخليج، والتي ستستمر في شد إزرنا إلى بعضنا البعض في المستقبل أيضاً.

كنا دائماً ولا نزال منفتحين على الحوار، وعلى البحث عن حلول لهذا النزاع، ولكننا لن نتخلى أبداً عن سيادة بلادنا. ولذا فإن هذا الحصار يجب أن ينتهي عن طيق الحوار والعمل المشترك والتعاون في تطوير مستقبل مشترك للجميع.

لقد أصبح من الواضح خلال هذه الفترة، أن الحصار لم يحقق أهداف الدول الأربعة. فالأمر الذي له دلالة كبيرة وحاسمة هنا، أن دولة قطر تمكّنت من تعزيز تنميتها، وتنمية اقتصادها والمحافظة على استقلالها. إذ أن دولة قطر اتخذت تدابير وسياسات مكّنتها من أن تصبح أكثر استقلالية اقتصادية، حيث نجحت دولة قطر في ضمان أمنها الغذائي، كما نجحت من خلال تنويع إيراداتها وصادراتها ومن خلال انفتاحها على القيم الثقافية للآخر من ضم أسواق جديدة والوصول إلى أكثر من 400 مليون زبون وشريك جديد حول العالم. ولهذا السبب فإن حل الأزمة والعودة إلى نظام العمل المشترك الذي كان قائماً في المنطقة يرتكز على مبدأين رئيسيين: الاحترام المتبادل للسيادة، وبناء علاقة متساوية بين دول العالم العربي.

تقف دولة قطر اليوم بإمكانياتها الكبيرة شريكاً قوياً لألمانيا بوصفها قوة ناعمة للتحوّل السلمي والإيجابي في الخليج. وتجدر الإشارة إلى أن الاستثمارات القطرية على الصعيد الاقتصادي في ألمانيا والتي تجاوزت 21 مليون يورو، وكذلك الصادرات الألمانية إلى قطر مثالاً ساطعاً على قوة العلاقات والروابط بين البلدين، فضلاً عن أن التبادل الثقافي بين بلدينا وصل إلى مستويات قياسية جديدة.

ففي هذا السياق تأتي رؤية قطر الوطنية 2030 بأعمدتها الرئيسية الأربعة، والتي تتمثل في التنمية البشرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية. فرؤيتنا الوطنية 2030وضع نصب عينيها تطوير وتحديث البلد، وتمكينها من المحافظة على إنجازاتها التي حققتها، وضمان مستوى الحياة والمعيشة للجيل الحالي والأجيال القادمة. كما تستهدف هذه الخطة الوصول إلى مجتمع مزدهر، مجتمعٌ يكون على قدر المعايير الأخلاقية العالية، بما يمكّنه من لعب دور هام في نطاق المجتمع الدولي. وهذا ما نتمناه لكامل دول المنطقة، ولجيراننا العرب للخروج بدعم المجتمع الدولي من هذا النزاع.

إن حساسيتنا لتاريخ الانقسام الألماني بين الشرق والغرب تتمحور حول موضوع حقوق الإنسان. إذ تنّص الفقرة الثانية من المادة 13 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، بأن "لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده". وبانضمام الدول المجاورة لنا إلى الأمم المتحدة، فإنها تكون قد اعترفت بهذا الإعلان، وكذلك بالحق في حرية الفرد في التنقّل. ولذا فإنه من غير المسموح أن يقبل المجتمع الدولي بانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها دول الحصار بشكل يومي.

لقد انهار جدار برلين قبل 29 عاماً، وإن الدروس المستفادة من التاريخ تعني هدم الجدران أينما كانت بشكل سلمي بين الشعوب، وإطلاق الحرية لترفرف بأجنحتها من جديد.

 

الشيخ سعود بن عبد الرحمن آل ثاني

سفير دولة قطر في جمهورية ألمانيا الاتحادية